الكاتب الراحل أنيس منصور
كتب بلال رمضان
كانت آخر وصايا الكاتب الراحل أنيس منصور، الذى فارق الحياة صباح اليوم الجمعة بمستشفى الصفا بعد رحلة قصيرة مع المرض استغرقت أسبوعا، هو الدفن بجوار والدته فى مدافن العائلة بمدينة نصر، وترك منصور وصية أخرى لشباب مصر صانعى ثورة 25 يناير قال فيها: "كل الثورات لها ولادة عسيرة وتسبقها وتليها دماء، فالثورة حيوان مفترس لا يرتوى إلا بالدم، وكذلك شجرة الحرية بالدم تولد وبالدم تعيش.. إلا ثورة الشباب المصرى فهى لا دم قبلها ولا بعدها، والذين كانوا بها لا تعرف لهم أسماء، ورفضوا أن تكون لهم أسماء أو أن يطلق عليهم لقب أبطال.. لذا أخاف على شباب مصر من الفتنة أى أخاف عليهم أن يفتنوا من أنفسهم وهم شباب لم تلوثهم السلطة بعد، وأخاف عليهم من الغرور ومن أن يفسدهم الناس كما أفسدوا غيرهم من قبل".
هكذا جاءت كلمات الكاتب الراحل عن ثورة 25 يناير، والتى قال عنها، إنها ستغير مسار الشرق الأوسط فلن يصبح العالم العربى بعد ثورة الشباب المصرى مثله قبل الثورة، مستعينا فى ذلك بنبوءة الرئيس الراحل أنور السادات عندما قال، إن الشرق الأوسط بعد الخمينى سيكون غيره قبل الخمينى.
بمزيد من الأسى نعى عدد كبير من المثقفين "منصور"، وقد رآه البعض مفكرًا وكاتبًا أثرى المكتبة العربية، وله دور حيوى فى الصحافة، جعله من الكتاب الكبار الذين يتميزون بأكثر الأساليب تشويقًا وجاذبية للقراء، ورآه البعض جسرًا بين الثقافات الغربية والعربية، واستطاع أن يبسطها للقارئ العادى فى المدارس والجامعات، إلا أن البعض الآخر رأى أنه بالرغم من غزارة إنتاجه الشديد والانتشار الواسع على المدى العربى بأكمله لكنه ظل يدور فى النطاق الصحفى الذى لا تبقى منه أعمال خالدة تدخل ضمير الأدب العربى بقوة.
الروائى فؤاد قنديل قال فى تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع" إن رحيل "أنيس منصور" يعد خسارة ثقيلة جدًا للثقافة المصرية، لأنه قدم للمكتبة العربية ما يقرب من مائة كتاب، ودوره فى تثقيف الشعب دور غاية فى الأهمية، حيث كان يبدع فى الفكر وليس فى الأدب، وأن إبداعه الكبير وتبسطيه للأفكار هو الدور المطلوب للغاية.
ورأى "قنديل" أن مصر بحاجة للعشرات من أمثال "منصور"، لكى يعملوا على تثقيف الشعب وتبسيط الأفكار العظيمة، مضيفًا، "وأعتقد أن غيابه سوف يؤثر كثيرًا فى جمهوره المحب له لأن له عشاقا بالملايين، فالمفكر قد وصلت أفكاره وثقافته إلى أبسط الناس بل الطلاب فى المدارس والجامعات، ونقدر ما قدمه تقديرًا بالغاً".
وقال الناقد الدكتور حسين حمودة: أتصور أن الدور الأهم الذى قام به "أنيس منصور" هو دور الوسيط وهذا الدور يتجلى فى تجربته على مستويات متنوعة، بين الكتابة الجادة وأحياناً العميقة من ناحية، والصياغات الصحفية التى تصل إلى دوائر واسعة من القراء من ناحية أخرى، وبين القراءات الفلسفية فى مجالات بعينها، مثل الوجودية بشكل خاص، وإعادة صياغة هذه الفلسفات بأشكال مبسطة وتقريبية فى كثير من الأحيان، ويعيد النظر فى تجربة أدب الرحلات ويضفى عليه مسحة معاصرة وجديدة، ويعيد الاحتفاء بفكرة التسلية والتسرية للقراء وعنهم، من خلال كتابات خفيفة فى حالات كثيرة وإن لم تخلو من قيم متعددة.
ورأى "حمودة" أن "أنيس منصور" كان جسرًا بهذا المعنى بين تجارب وثقافات متعددة ومتنوعة بين المسرح الغربى، وتجاربنا المسرحية، وبين الفلسفة الحديثة وتراثنا الفلسفى، وبين الأدب والصحافة..إلخ.
وقال "حمودة": سألت مرة الأستاذ "نجيب محفوظ" عما يتصوره فى تجربة "أنيس منصور" فرد بسرعة قائلاً: "هو صاحب أسلوب"، وهذه العبارة صحيحة تمامًا. وربما كانت هذه السمة هى الأكثر حضورًا فى تجربة أنيس منصور كلها، وربما كان هناك كثيرون من القراء يتوقفون عند هذا الأسلوب وينجذبون إليه، بغض النظر عما كان الكاتب الراحل أنيس منصور يتناوله بهذا الأسلوب.
وقال الناقد الدكتور صلاح فضل رئيس الجمعية المصرية للنقد الأدبى، إنه برحيل "أنيس منصور" فقدت مصر وفقد الأدب العربى واحدًا من كبار الكتاب الذين يتميزون بأكثر الأساليب الصحفية حيوية وتشويقًا وجذابًا لاهتمام القراء، مضيفًا كان "أنيس منصور" يبذل جهدًا كبيًرا فى استقاء المعلومات من المصادر الأجنبية ويترجمها بمعونة بعض مساعديه إلى العربية ويصوغها بشكل جذاب كأنه هو صاحبها، فمزج الصحافة فى فن الكتابة المشوق، وتخصص فى مطلع حياته بأدب الرحلات، فكتب عجائب البلدان ونوادر الحكايات، وروج مثلاً فى مرحلة من المراحل لتقنية سحرية تتمثل فى تحضير الأرواح.
ورأى "فضل" أن هذا الاتجاه يبدو وكأنه بتحريض من بعض القوى السياسية التى تريد إلهاء المواطنين عن المشكلات الاجتماعية الحادة فشغلت كل البيوت بتحضير الأرواح على طريقة "أنيس منصور"، مشيرًا "كنت أسأل طلابى فى كلية الآداب عن أكثر الكتب رواجًا لديهم والكتاب التى يحرصون على قراءتها فكانوا يجمعون على "منصور" فأشرح لهم عدم التزامه بالمبادئ وقلة أمانته فى النقل وعدد آخر من وجوه النقد التى أقسو فيها عليه ثم أسألهم فى نهاية العام فيجمعون على "أنيس منصور".
وأشار "فضل" إلى أنه فى مرحلة أنور السادات اقترب "منصور" بشدة من سياسة التطبيع مع العدو الصهيونى وبشر بالتقارب العربى الإسرائيلى وروج له ففقد كثيرًا من مصداقيته لدى المثقفين حتى شعر بالعزلة واتهم بالدعاية للتطبيع مع الصهاينة، وفى مرحلة لاحقة انشغل بالترجمة وكان يخلط أحيانًا بينها وبين التأليف فكتاب "العظماء مائة أعظهم محمد عليه السلام" قدمه فى الطبعة الأولى باعتباره مترجمًا ثم لم يلبث أن حذف اسم المؤلف واكتفى باسمه فى الطبعات التالية كان "أنيس منصور" غزير الإنتاج شديد التأثير واسع الانتشار على المدى العربى بأكمله لكنه ظل يدور فى النطاق الصحفى الذى لا تبقى منه أعمال خالدة تدخل ضمير الأدب العربى بقوة.