من حسن ومرقص لماسبيرو..أى مصر نريد؟
16-10-2011
عبير ياسين *
لا يزال النقاش دائرًا حول حقيقة ما حدث فى ماسبيرو، ليس بالطبع حقيقة وجود مسيرة ولا وجود قتلى وجرحى، ولكن طبيعة الأسلحة المستخدمة، والمسؤول عن القتل، وبشكل أكثر تحديدًا النقاش حول طبيعة المسيرة وطبيعة تعامل القوات المسلحة فى تلك الأحداث.
ولكن على الجانب الآخر من المشهد، تبرز مناقشات أخرى لا يمكن إنكار وجودها حول طبيعة العلاقة بين مكونات الشعب المصرى بمسلميه ومسيحييه، وحقيقة الرؤية الدينية لكل طرف وما تحث عليه من علاقة مع الآخر المختلف دينيًا، وحول هوية مصر بين من هو أصل ومن هو ضيف، نقاش يفضل البعض إنكاره كليًا على أساس أننا أمام قضية اعتداء من القوات المسلحة ممثلة فى الشرطة العسكرية على مسيرة سلمية، وشحن ربط البلطجة بالمتظاهرين، وسياسة "فرق تسد" للبقاء على الكراسى مستبعدين أى نقاش طائفى ومركزين على ضرورة نقل السلطة من المجلس العسكرى لسلطة مدنية مقابل من يرى أن القضية كلها طائفية وأنها تتعلق برؤية أطرافها بمن فيهم أفراد الشرطة العسكرية أنفسهم، فوفقًا لتلك الرؤية شارك أفراد من المواطنين فى الأحداث نصرة للجيش وللإسلام بعد عملية الشحن الطائفى التى قام بها التليفزيون المصرى، فى حين اكتفى بعض أفراد الشرطة العسكرية بالوقوف دون تدخل، وهنا مع استمرار حالة الجدل الذى أفضل أن يترك جزء منه بالفعل للقضاء.
أعود مرة أخرى لفكرة أساسية وهى وجود عوامل مشتركة فى تحليل ما يحدث، فمن جانب لا يمكن استبعاد دور إدارة الأحداث فيما وصلت إليه من تعقد، ولكن بدون وجود مشاكل طائفية لدى البعض، ما كانت الأوضاع لتتطور بتلك الطريقة، فلا يمكن إنكار المحتوى الطائفى الذى صدر خلال الأزمة وقبلها وبعدها عن شخصيات متعددة بخلفيات وأدوار مختلفة ساهمت فى عملية الشحن ما قبل وأثناء وبعد الأزمة، وهنا تبرز حقيقة دور الأزمة فى الكشف عن المتحدث، فإن كنت قادرًا فى أوقات عادية على الحديث بكلام مليء بعبارات الوحدة ورسم ابتسامة المحبة أمام الكاميرات، فإن لحظة الأزمة قادرة على الكشف عن المواقف الحقيقية التى قد تكون مفاجئة أحيانًا للشخص نفسه.
ومنذ سنوات ذكر أحد العاملين فى مجال المساواة والحقوق والحريات للسود فى الولايات المتحدة أنه عندما كان يسير بمفرده ليلاً شعر بمن يسير خلفه على مقربة فأحس بالخوف الشديد وعندما التفت خلفه ووجد أن السائر خلفه شخص أبيض شعر بالارتياح وهنا أدرك أنه يعاني مما يحارب ضده، ففى اللاشعور كان لديه رابط بين الجريمة والخوف والمواطن الأسود فقط لأنه أسود ولأنه عاش مع تلك الصورة لسنوات، اكتشف أن كل ما يقوله تهدم فى لحظة وظهر أنه مثل غيره لا يمارس المساواة التى يدعو لها. هذا الموقف نفسه هو ما وجد البعض أنفسهم فيه خلال أحداث ماسبيرو، فالبعض لم يستطع أن ينكر أو يخفى حقيقة شعوره الداخلى القائم على اللامساواة بينه وبين الآخر المختلف دينيًا، وللموضوعية يبقى من المهم أن نقول أن جزءً من رد الفعل هو نتاج رؤية نمت عبر سنوات، رؤية تم التعامل معها بخفة ولا مسؤولية مستفزة وكأن القائمين على الأمر لم يدركوا حقيقة المشكلة وحقيقة أن مصر لن تكون مصر بدون أن نعترف بأنها وطن واحد لكل مواطنيها، تلك الأحداث مع قصة الناشط الأمريكى أعادتنى لقراءة سابقة لى لفيلم حسن ومرقص الذى أذيع عام ٢٠٠٨، وتمت الإشادة به فى هذا الوقت بوصفه أحد الأفلام المهمة التى تناقش قضية الوحدة الوطنية، حيث تم تكريمه أكثر من مرة منها تكريمه أو تكريم بعض أبطاله بعد بعض الأزمات التى شهدها عام ٢٠١١ الحالى لدوره فى مناقشة القضية.
ولكن هل توقف المقيمون أمام الرؤية التى يعبر عنها الفيلم؟ فقد نتفق على نقطة أساسية وهى أن الفيلم يناقش قضية الوحدة الوطنية، ولكن كيف يتناولها وما هى الرسالة التى يراد إيصالها، وما هى الانطباعات التى ستبقى لدى المشاهد بعد أن تنتهى لحظات الكوميديا - إن وجدت - وتبقى الفكرة مترسبة فى اللاشعور، وإلى أى مدى يؤثر هذا الطرح على القضية المعنية ويشارك فى التصدى لها، وأعود للتوقف أمام حسن ومرقص لأن مصر التى رأيتها فيه، والتى أراها عبر ما يطرحه البعض حول أحداث ماسبيرو متشابهة ولكنها مختلفة عن مصر التى أحملها داخلى، وبالطبع عن مصر التى أتمناها، وبعيدًا عن الفنانين والإنتاج والدعاية التى كانت كفيلة بإنجاح الفيلم والتى تبرر الاهتمام الذى حظى به، فإن الحكم على فيلم من هذا النوع الذى يتصدى لقضايا كبرى تمس الوطن يرتكز فى جزء كبير منه - من وجهة نظرى - على كيفية التصدى للقضية محل التناول بوصفها أبرز وأهم عناصر التقييم، فلا يمكن الاكتفاء بتقييم الفيلم مثلاً من حجم الكوميديا فيه، أو أداء الممثلين، أو غيرها من العناصر الفنية الأخرى رغم أهميتها لأن محوره الأساسى واختلافه الذى طرح على أساسه يتمثل فى القضية التى تناولها، ورغم أن الفيلم يفترض به أن يعبر عن قضية الوحدة الوطنية فإنه عبر عن حالة "صراع" بين المسلمين والمسيحيين، فمنذ اللحظة الأولى عبر عن دولة يحكم طرفيها حالة مستمرة من الصراع، كل طرف يحقد على الآخر، يكره الآخر، يشعر بأنه مظلوم مقارنة بالآخر، يشعر بأنه مواطن درجة ثانية مقارنة بالآخر.
وهكذا تستمر حلقات الصراع بين الطرفين فى كل لقطة تجمع طرف من الطرفين بصورة منفردة بعيدا عن الطرف الآخر. فمجرد وجود المسلمين يعنى خطاب عدائى ضد المسيحيين، ومجرد تجمع مسيحيين يعنى خطاب عدائى ضد المسلمين ناهيك عن التآمر وغيرها من الأمور التى تعبر عن دولة فى حالة صراع تجعلك تتساءل عن عوامل بقاءها حتى تصل للنهاية للتعرف عن رؤية الفيلم نفسه. حالة نعود ونشاهدها على هامش ماسبيرو عبر بعض التسجيلات التى ترفض الآخر، وتمس من مصريته
..........
وتدور قصة الفيلم - للتذكير - عن عائلتين، هما: عائلة عادل إمام "بولس" المفكر المسيحي الذى يدعو للحوار والتعايش ورفض العنف وتتكون أسرته من زوجته لبلبة "ماتيلدا" وابنه محمد الإمام "جرجس"، وعائلة عمر الشريف "محمود" الذى تتكون أسرته من زوجته هالة الشوربجي "زينب" وابنته شيري عادل "فاطمة"، أما الفانتازيا فى الفيلم فتبدأ مع المشكلة الأمنية التى يتعرض لها الطرفان، عبر محاولة اغتيال بولس بتفجير سيارته، وحرق محل العطارة الخاص بمحمود كنوع من التهديد عقب رفضه تولى إمارة الجماعة التى كان أخوه يتولاها على الرغم من ابتعاده عنه فكريًا، إذن طبيعة التهديد واحدة، ومصر منقسمة كما يتضح ظاهريًا ما بين أطراف تبدو "معتدلة" وتدعو للحوار والبعد عن العنف، وأطراف "متعصبة" تدعو للصراع واستخدام القوة، وهنا تأتى الفانتازيا الكبرى فى تعامل الأمن مع تلك المعضلة، والتى تبرز فشلاً أمنيًا استمر فى معالجة هذا الملف سواء بشكل مقصود أو بشكل غير مقصود يعبر عن العجز والتخبط.
فالأمن الذى يظهر فى صورة لواء أمن الدولة مختار سالم، والذى يقوم بدوره عزت أبو عوف، يعبر عن العديد من عيوب التعامل الأمني بدءً من التنصت وصولاً إلى التعامل وفقًا لأسلوب الجزر المنعزلة الذى يشعرك أثناء الفيلم أن العملية أقرب للفردية، بمعنى أن هؤلاء الأفراد الذين قبلوا بخطة اللواء معرضين فى حالة انشغاله أو اختفائه للكثير من المشكلات وكأن لا أحد آخر على علم بالعملية أو يقوم بإدارتها، بالإضافة إلى أن هؤلاء الأشخاص قبلوا بخطة لا تتضح أبعادها وتبدو عشوائية وغير مخططة كحال أشياء كثيرة فى مصر.
وحتى عندما تبدأ تلك الأطراف فى التحرك خارج الدوائر التى حددها الأمن لا يظهر الأمن بتاتًا فى الصورة وكأنه غير معن، مشكلات لانزال قادرين على رؤية بعض تجلياتها، قد يقول البعض إن الفيلم لا ينبغى له التعبير عن كل هذه النقاط وإلا فقد فنيته، ولكن تبقى خطة الأمن نفسها معبرة عن عقلية وأسلوب إدارة المشكلة، حيث يتم اللجوء إلى تغيير الهوية لحماية تلك الشخصيات المعرضة للخطر. ولكن بدلاً من تغيير الأسماء وبيانات العمل ومحل الإقامة، يتم تغيير الديانة، وهو ما يجعلنى أطرح سؤالاً لن أجيب عنه: هل يمكن أن يفكر كل منا فى شعوره إن كان فى موقف من فقد عزيزًا مسلمًا كان أو مسيحيًا؟ أن تضع نفسك موضع الآخر ليس شكلاً ولكن شعورًا؟
وإمعانًا فى تأكيد حالة التخبط التى يعاني منها الأمن، فإن اختيار أماكن تسكين تلك الشخصيات يمثل تصعيدًا لحالة العشوائية، حيث يقوم الأمن بتسكين الشخصيات الجديدة فى أماكن بدورها محل صراع وكأنه يقصد وضعهم تحت الضوء وتهديد عملية التأمين المفترضة، وهو ما يقصد منه بالطبع تكثيف حالة الكوميديا المفترضة، فبولس الذى يتحول إلى "الشيخ" حسن العطار يتم إرساله إلى المنيا، ومحمود الذى يتحول إلى مرقص المغترب العائد بأسرته من أمريكا يتم تسكينه فى منزل يملكه مسيحى ولا يسكن فيه إلا مسيحيين، يبدو الفيلم هنا وكأنه ينتقل بتلك الشخصيات من واقعها الأول الذى تشغل فيه مساحة عليا من قمة الصراع حيث الصراع على الأفكار (المفكر الدينى وأمير الجماعة)، إلى واقع مختلف أشبه بالنزول إلى قاع المجتمع والاحتكاك الحى بالمشكلة على الأرض لتبدو حالة الصراع ربما بأكثر مما تبدو على السطح، وكأنه ينتقل من مصر السطح حيث الصراع على "الأفكار الكبرى" و"الزعامة"، إلى القاع حيث الناس وقود الصراع وأدواته.
أما الناس الذين عبر عنهم الفيلم فقد ظهروا كمجرد "جموع" لا يحكمها إلا فكرة "القطيع" الذى ينتظر من "يحركه" سواء بكلمة أو بعصا وهو نفس ما يكرره البعض على هامش أحداث ماسبيرو، حيث التعبئة والشحن الذى انتقل من مؤسسات لشارع، ومن كلام لدم مصرى مسال، وفى الفيلم ظهرت إحدى الصور الكبرى لتحريك الجموع فى المنيا، حيث الجموع المستعدة لأن تقاد ممن يرغب دون أى مبررات أو مسوغات للقيادة، فبمجرد أن يعرف شيخ المسجد فى المنطقة التى نزل بها بولس باسم حسن العطار بوجوده ويقول للجموع إنه عالم جليل يتحول إلى داعية تتهافت عليه الجموع ليذهب للمسجد وهو أمر أصبح عاديًا فى الحالة المصرية والتى شهدت الكثير من تلك المظاهر خلال السنوات الأخيرة، ولكن أسلوب إدارة الحوار وتهليل الناس له على "اللاشيء" الذى يفترض أنه قاله، وتحول منزله إلى طوابير تنتظر أخذ البركات منه صورة فانتازية مكثفة لمجتمع القطيع الذى يتحول فى النهاية إلى الفعل العكسى أيضًا عندما يساق كقطيع فى أعمال التخريب التى تدار من قبل متطرفي الطرفين، ولا أقصد إنكار أن هناك جزءً من فكرة القطيع بالطبع موجودة، وهى رؤية نمت عبر عقود طويلة ولن تكون ثورة يناير بقادرة على محوها خلال أيام ولا وسط أجواء الشحن والصراع بالطبع ونعود لصورة الأمن المتخبط مرة أخرى، فرغم أن الجميع يتحدث عن أن الشيخ حسن العطار شخصية معروفة نفاجأ بأن الأمن المحلى لا يعرف شكله وكأنه شخصية شبح، مثلما حدث على مدار طويل من فاعل مجهول وماس كهربائى وفاعل ملثم ومندس وفلول وخلافه فالقائمة طويلة وممتدة، وبهذا يتعامل الأمن مع "بولس" على أنه الشيخ حسن الذى نقل نشاطه إلى المنيا.
وتظهر العصا الغليظة للأمن القائمة على التعذيب والضرب، والتى لا تحقق الأمن بالطبع، ولا ينقذ بولس تلك المرة إلا الجموع فى حالة وحيدة أشار فيها الفيلم بدون قصد على ما يبدو لقدرة الجموع على التأثير على عكس إرداة النظام، حالة ثبت أن الفيلم كالنظام لم يدرك أنها ممكن بالفعل أن تتحرك كثورة ضد النظام، ولأن الجموع لا تمارس حقها فى الضغط السلمى بشكل طبيعى، ظهر تحركها فى الفيلم، كما يظهر أحيانًا فى الواقع، من خلال التدمير والتهديد بالاعتصام خارج القسم ليتم الإفراج عن بولس.
نعم قدرة الجماهير هائلة لكنها يمكن أن تتم أيضًا بشكل سلمى وعاقل ورشيد، شكل يحول قدرة الجموع لعامل بناء وليس هدم، فكما أسقطت رموز نظام يمكنها أن تهد النظام بشرط أن تبنى غيره بالعودة لجو الفيلم، ومع تلك التعقيدات يقرر بولس "حسن" الرحيل بعد اختياره إمامًا للمسجد، ويلجأ لصديقه المسيحى صاحب المنزل الذى يعيش فيه محمود "مرقص" لتبدأ صورة أخرى من صور الصراع والكراهية فى الظهور ولكنها تلك المرة مغلفة بالحب الوهمى الذى يغلف مصر كما أبرزها الفيلم وكما يبرزها البعض الآن، هنا القضية مهمة وشغلت بالفعل تفكيرى من تلك اللحظة، فكل طرف عندما يتقابل مع الآخر يتعرف عليه فى صورته الوهمية، ويشعر داخله بأن الآخر على دينه، وهنا ينشأ هذا الحب الوهمى القائم على فكرة الديانة والذى سرعان ما يختفى بعد معرفة الحقيقة، وهو ما يؤكد حالة الصراع حتى لدى تلك الأطراف المتسامحة التى اعتبرها الفيلم نموذج وأمل مصر كما يبدو فى الختام، ربما على طريقة الناشط الأمريكى وسعادته بوجود شخص أبيض مثله، فمع انتقال بولس "حسن" للسكن فى نفس المنزل يلتقى بمحمود "مرقص" وتنشأ بينهم حالة حب وألفة تظهر سريعًا فور اللقاء والسلام، فكل طرف لا يرغب فى مفارقه الآخر، وكل منهم يتحدث عن الآخر بوصفه "المسيحى الطيب" و"الشيخ الفاضل"... إذن هو خطاب الدين مرة أخرى وليس الوطن المشترك أو الجيرة.
............
للأسف نكتشف عبر أحداث الفيلم التالية أن الخطابات النظرية الكبرى سهلة وأن الحكم على الأشخاص لا يمكن أن يكون حقيقيًا إلا إذا وضعوا محل اختبار كما حدث ويحدث خلال أحداث ماسبيرو وبعدها، فالنموذجان المعتدلان الداعيان للحوار فى الخطاب النظرى سقطوا فى الممارسة الواقعية، وظهر أن كل منهم يفضل ويتقرب لأتباع دينه والأهم أنه يعادى أتباع الدين الآخر بل ويكرهه أيضًا، فمحمود "مرقص" يرفض مشاركة الصائغ المسيحى فى عمل مخبز ولكنه يرحب مباشرة بمشاركة بولس "الشيخ حسن"، بل ويقوم بطرد عامل مسيحى فى حين يقوم بولس الحقيقى بإعادته، وعندما يشاهدان سويًا فيلم لنجيب الريحانى ويقص بولس الحقيقى قصة عن نجيب الريحانى والمؤلف بديع خيرى يتغير وجه محمود عندما "يكتشف" أن الريحانى مسيحى، وبعد أن كان يستمتع بمشاهدة الفيلم ويؤكد على قدرة الريحانى غير العادية على الإضحاك يتحول إلى إظهار ملامح الامتعاض وتكلف الابتسام فى تغير غريب وغير مبرر ولا يتسق مع ما أراده الفيلم من صورة معتدلة ومتسامحة لشخصياته الأساسية، رسالة تؤكد أن العلاقة قائمة سطحيًا على التسامح والقبول وموضوعيًا على الرضوخ للوجود، إذن عندما نزلوا لأرض الواقع اكتشفنا أنهم بشر، ولكن ليسو بشر بمفهوم البشرية العامة الكلية، إنهم بشر بمفهوم الفيلم مصريين يعيشون فى حالة صراع داخلى على أساس الدين.
وتتعمق تلك الرؤية وفقًا للكثير من الجزيئات الصغرى، فكل عبارات الحب والارتياح التى تتم من كل طرف عن الآخر تنبع من إحساس المتحدث أن الآخر فى حقيقته على دينه الحقيقى، وأنه محل للثقة والطمأنينة لهذا السبب، حتى عندما تنشأ قصة الحب – عقدة الحدث - بين الابنة المسلمة المقدمة بوصفها مسيحية مع الولد المسيحى المقدم بوصفه مسلم، فإنها تحظى بالمباركة بالطبع لمعرفة كل طرف بعدم وجود موانع دينية لأن الآخر على دينه، ومع تزايد المشكلات المحيطة بأبطال الفيلم يقررون الرحيل ويعبرون عن هذا بكلمة بسيطة أن طريقهم واحد (ضمنًا دينهم واحد) ويرحلون سويًا وتلك المرة إلى الإسكندرية فى إسقاط للأحداث الطائفية التى شهدتها فى هذا الوقت .
ولتأكيد فكرة المصير المشترك فإنهم عندما يذهبون لا يجدون إلا شقة واحدة فيضطرون للبقاء سويًا فى إسقاط آخر على مصر البيت الواحد، ولكن ما الذى يفعلونه ونفعله بهذا البيت المشترك؟ فى البداية ولأنهم يشعرون داخليًا بطمأنينة الدين الواحد تبدو العلاقات قائمة على المحبة والدفء والعيش المشترك، وعندما يعترف الولد للبنت بحبه وهو سعيد لأنه يزف لها خبر مسيحيته تبكى بأسف وهى تؤكد له إسلامها، هنا يحدث تحول يؤكد أن السطح غير الجوهر، وما يعلن غير ما يضمر، فجأة تقام الحواجز داخل المنزل (مصر- الوطن)، وتسارع الزوجة المسلمة التى كانت قد خلعت حجابها على مدار الأحداث التى جعلتها مسيحية لارتداء النقاب فى حين ترتدى الابنة الحجاب، تغيرات سريعة وعلى النقيض توضح حجم الفجوة وليس التسامح.
ولكن يبقى السؤال: ما هى حدود اختلاف العلاقات عندما يختلف الدين؟ ففى الفيلم ارتبط الكشف عن اختلاف الدين بخطاب الكراهية والتآمر خاصة على لسان النساء فى حين اكتفى الرجال بقبول الحال، ربما فى إسقاط لخطاب آخر دارج عن المرأة أصل الشرور، ومع تصاعد خطاب الكراهية داخل المنزل يكون هناك خطاب كراهية آخر فى الكنيسة والمسجد، أو كما فى ماسبيرو على شاشات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعى، وينتهى الشحن المؤسسى بتحريك "القطيع" تحت دعاوى الدفاع عن الدين فى موجه عنف تجتاح بدون تمييز لتحرق ليس فقط المحال والسيارات بل والبيوت بما فيها البيت الذى يجمعهم أو مصر.
....................
مصر تلك، مصر الأخرى التى عبر عنها الفيلم قد تكون موجودة ولكن هل كما جاء فى الفيلم هذا هو السؤال؟ الفيلم كثف مصر الأخرى، مصر الصراع والعداء وبالتالى كان الطبيعى أن يصل كما تصلنا دومًا تلك الرؤى لحالة الحريق والاشتعال والاقتتال التى شهدها الشارع وكأنه لابد أن تنتهى الأشياء ونبدأ من جديد، ينتهى الفيلم وهم يسيرون معًا مع خلفية مشاهد الحريق، نعم ربما لم تتغير القلوب وربما هو تجمع اللحظة ولكن برسالة تقول إننا لا نحتاج لأن "نحب بعض" ولكن يجب أن نتعايش، وهنا تبدو الصورة المتناقضة ما بين مصر التى عرفتها وأريدها، ومصر التى يعبر عنها الفيلم والتى يصلنا لها فى رسالته الأخيرة، وربما مصر ماسبيرو كما يحاول البعض هنا وهناك تصويرها، فمصر التى عرفتها متسامحة فيما يخص الدين، فالتواصل الإنسانى حدوده العالم فالدين لله والوطن للجميع، شركاء لا فرقاء هذه مصر التى عرفتها ولكن مع الوقت كانت مصر تتغير بما يمس التسامح فى الديانة ضمن أشياء أخرى، وأصبحنا أمام نقاش طائفى يطفو على السطح مع كل أزمة ويتم التعامل معه وكأنه أشباح تظهر وتختفى بوقفات احتجاجية ومسيرة تضامنية، وصور وابتسامات أمام الكاميرات.
ولكن الواقع يثبت أن تشابك الأيدى لا يحمل معنى بأكثر من تشابك لحظة الأزمة كما فى حسن ومرقص وماسبيرو حتى الآن، ولكنه ليس تشابكًا صحيًا لأن الأساس مريض ويحتاج لمعالجة، والإنكار لا يفيد ولا يحول دون الإضرار بالبيت الكبير، مشكلة حسن ومرقص كما هى مشكلة جزء من الجدل خلال أحداث ماسبيرو أن مصر بالنسبة لهم تقوم على الاضطرار أن تضطر لقبول الآخر لأنه معك، أن تقبله دون أن تحبه، أن تنظر له بوصفه ضيف أو أقلية يفترض على الآخر تقديم واجبات الضيافة. ولكن مصر التى أعرفها تقوم على الحب والعيش المشترك القائم على الجيرة من المؤكد أن مصر القائمة على الحب هى مصر التى أتمناها لى وللأجيال القادمة، أما مصر القائمة على الاضطرار للتعايش فهى مصر تحمل فى داخلها بذور صراع تتناقل عبر الأجيال وتجعلنا جزرًا منعزلة.. لا أرغب أن أكونها ولا أن تكونها هى يومًا ما، ولعل فى حسن ومرقص وأحداث ماسبيرو .
هذا الرابط الذى يعيدنا لطرح السؤال حول مصر هل هى وطن واحد أم جزر منعزلة كل منها يبحث عن خلاصه الذاتى؟ لا يزال بإمكاننا أن نختار أن نسير معًا اضطرارًا أو حبًا.
---------------------
* باحثة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
مع تحياتى الكنج جوو